رابعاً: الإعجاز التشريعي
إن النبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء بتشريع وسط بين الأنظمة الوضعية المعاصرة، فقد جاء بتشريع أوجب فيه كفاية الفقير حتى يصل إلى أول مراتب الغنى، بتأمين الحاجات الضرورية والحاجية لا التحسينية الكمالية.
يقول الإمام النووي متحدثاً عن المقدار المصروف من الزكاة إلى الفقير والمسكين: ".. يعطيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام، وهذا نص للشافعي. واستدلوا له بحديث قبيصة"([1]).
ففي صحيح مسلم: (.. ورجل أصابته فاقة .. حتى يصيب قواماً من عيش ..)([2]).
قال النووي: "المعتبر من قولنا يقع موقعاً من كفايته: المطعم والملبس والمسكن، وسائر ما لا بد له منه، على ما يليق بحاله، بغير إسراف ولا تقتير، لنفس الشخص، ولمن هو في نفقته"([3]).
وقال ابن رشد: " كم يجب لهم: ... وقال الليث: يعطى ما يبتاع به خادماً إذا كان ذا عيال، والزكاة كثيرة .. وأكثرهم مجمعون .. ـ يعطى حتى يصل ـ إلى أول مراتب الغنى"([4])، فإن لم تفِ الزكاة فيعطون من المال الفاضل عن المصالح العامة([5]).
فإن عجزت ميزانية بيت المال، فإن كفاية فقراء الأمة مسلمين أو غير مسلمين تجب في أموال الأغنياء. يقول إمام الحرمين الجويني: "أجمع المسلمون أجمعون على أنه إذا اتفق في الزمان فقراء مملقون .. تعين على أهل الغنى واليسار أن يسعوا في كفايتهم"([6]).
وذكر ابن حزم أن الأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وسأكتفي بذكر واحد منها فقد قال الله تعالى:
﴿لَيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ ...﴾[البقرة:177]
قال المفسر القرطبي: قوله تعالى: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ﴾ استدل به من قال: (إن في المال حقاً سوى الزكاة)([7]).. قلت: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها، من قوله: ﴿وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ﴾ فذكر الزكاة ..، وذلك دليل على أن المراد بقوله: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ﴾ ليس الزكاة المفروضة فإن ذلك يكون تكرارا...([8]).
ويتجلى الإعجاز التشريعي للقرآن الكريم عندما أوجب قضاء الدين عن المدين الفقير من بيت مال المصالح العامة ـ إن كانت الدولة غنية([9]) - وهو تشريع لم تعرفه التشريعات الوضعية في العالم قاطبة إلى اليوم، فقد قال الله تعالى:
﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ﴾ [الأحزاب:6].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما فتح الله الفتوح عليه: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين، فترك ديناً فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)([10]) وفي لفظ من طريق آخر عنه في صحيح البخاري (... ولم يترك له وفاءً، فعلينا قضاؤه..)([11]) وهو في صحيح مسلم وغيره من طريق جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر (... من ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ)([12]). قال أبو عبيد: "فإذا رأى لهم حقاً بعد الموت، فهو في الحياة أحرى أن يرى"([13]).
قال العلامة محمد بن إبراهيم الشهير بالعزيزي: "قوله (فإليّ وعليّ): أي فأمر كفاية عياله إليّ، ووفاء دينه عليّ"([14])، قال القرطبي: "قال بعض أهل العلم: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال: (فعلي قضاؤه)"([15]).
كما أن الإسلام عرف الملكية العامة للثروات الطبيعية كالمعادن والبترول، ولو وجدت بأرض مملوكة في القول المشهور عند المالكية، والبترول عند الحنابلة، وملكية الأمة لأراضي البلاد المفتوحة عنوة، فقد وقف الخليفة عمر رضي الله عنه أرض الشام والعراق ومصر على أجيال أمة، إلى جانب إقرار الإسلام الملكية الفردية المقيدة. بوجوب كفاية الأغنياء لبيت المال للقيام بالمصالح العامة الضرورية، وكفاية فقراء الأمة.
وقد ذكر أحد كبار علماء الاقتصاد الغربيين في ختام أحد المؤتمرات الاقتصادية الإسلامية التي عقدت في مدينة (بادن) في ألمانيا- وكنت أحد الحاضرين فيه، وضم مائة وعشرة من علماء الاقتصاد المسلمين- ومائة وعشرين من علماء الاقتصاد الغربيين الذين جاءوا من غرب أوروبا، لمناقشة قضية الاقتصاد الإسلامي، وفي اليوم الأخير من المؤتمر، وقف رئيس فريق الاقتصاديين الغربيين، وقال: "لقد تبين لي وللفريق العامل معي أن إنقاذ العالم من مأساته الاقتصادية، موجود عندكم أنتم معشر المسلمين". وقد دعا بابا الفاتيكان مؤخراً إلى الأخذ بنظام المعاملات الإسلامي لإنقاذ بنوك العالم من الإفلاس.
أما الإعجاز في المجال الصحي فقد قالت عضوة في مجلس العموم البريطاني أثناء جلسة لمناقشة قضية انتشار الإيدز، الذي أصبح الشغل الشاغل لكثير من الناس ـ وكان المجلس قد طلب رأيها في حل مشكلة هذا الداء العضال الذي أصبح يهدد العالم أجمع ـ فقالت: (أتريدون أن أخبركم بالحل لمرض الإيدز؟ إنه الحل السعودي) وتقصد بالحل السعودي: الحل الإسلامي، أي: إقامة الحد على مقترف هذه المعصية، فهو الذي سوف يقضي على ظاهرة الإيدز.
وللإعجاز التشريعي جوانب متعددة، منها: الإعجازالتشريعيفيمجالالجنايات
الإعجازالتشريعيفيمجالالمعاملات
الإعجاز التشريعي في مجال العلاقات الأسرية.
الإعجاز التشريعي في مجال العلاقات الدولية،
وقد دخلت الشريعة الإسلامية كمرجع من مراجع الأمم المتحدة.وليس هنا مجال بحثها، ولها مصادرها الخاصة بها، في كتب الفقه، وكتب فقه السياسة الشرعية، والكتب التي تناولت بعض الجوانب التفصيلية في بعض المجالات التي تتعلق بتنظيم الحياة الإنسانية وفقاً لتشريعات الإسلام وأحكامه.
-------------------------
([1]) المجموع شرح المهذب 6/193، إدارة الطباعة المنيرية.
([2]) صحيح مسلم رقم 1044.
([3]) المجموع شرح المهذب 6/191.
([4]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1/277 – 278، الطبعة الرابعة، دار المعرفة، 197.
([5]) أنظر: مجموع فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 28/575 – 576.
([6]) غياث الأمم في التياث الظلم ص 259 مطابع الدوحة 1400.
([7]) أخرجه الدارقطني عن فاطمة بن قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في المال حقاً سوى الزكاة) ثم تلا هذه الآية: (ليس البر أن تولوا وجوهكم...) وأخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعة وقال: (هذا الحديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزه ميمون الأعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهو أصح).
([8]) الجامع لأحكام القرآن 12/241، 242 دار عالم الكتب 1423 – 2003.
([9]) أنظر: السراج المنير شرح الجامع الصغير 1/506.
([10]) صحيح البخاري (5371) صحيح مسلم (1619).
([11]) صحيح البخاري (6731).
([12]) صحيح مسلم (867) وأبو داود (2954) وأحمد (3/337) وغيرهم.
([13]) الأموال رقم 543.
([14]) أنظر: السراج المنير شرح الجامع الصغير 1/506.
([15]) الجامع لأحكام القرآن 14/122 وأنظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 12/10.