ظلم النفس نوعان


فريق عمل الموقع

 

وظلم النفس نوعان:

نوع لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية والصديقية والاصطفاء وهو ظلمها بالشرك والكفر،

ونوع يبقى معه حظه من الإيمان والاصطفاء والولاية وهو ظلمها بالمعاصي، وهو درجات متفاوتة في القدر والوصف.

 

فهذا التفصيل يكشف قناع المسألة ويزيل أشكالها بحمد الله. قالوا: وأما قولكم: إن قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ } مرفوع لأنه بدل من قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [فاطر: 32] [الشورى: 22] وهو مختص بالسابقين، وذكر حليتهم فيها من أساور من ذهب يدل على ذلك إلخ.

فجوابه من وجهين:

أحدهما أن هذا بعينه وارد عليكم، فإن المقتصد من أهل الجنات، ومعلوم أن جنات السابقين بالخيرات أعلى وأفضل من جناته، فما كان جوابكم عن المقتصد فهو الجواب بعينه عن الظالم لنفسه، فإن التفاوت حاصل بين جنات الأصناف الثلاثة، ويختص كل صنف بما يليق بهم ويقتضيه مقامهم وعملهم.

 

الجواب الثاني: أنه سبحانه ذكر جزاء السابقين بالخيرات هنا مشوقا لعباده إليه منبها لهم على مقداره وشرفه، وسكت عن جزاء الظالمين لأنفسهم والمقتصدين ليحذر الظالمون ويجد المقتصدون، وذكر في سورة الإنسان جزاء الأبرار منبها على ما هو أعلى وأجل منه وهو جزاء المقربين السابقين ليدل على أن هذا إذا كان جزاء الأبرار المقتصدين فما الظن بجزاء المقربين السابقين فقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } إلى قوله:

 

 

{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا  قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ } إلى قوله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان: 5-21]، فذكر هنا الأساور من الفضة والأكواب من الفضة في جزاء الأبرار، وذكر في سورة الملائكة الأساور من الذهب في جزاء السابقين بالخيرات، فعلم جزاء المقتصدين من سورة الإنسان، وعلم جزاء السابقين من سورة الملائكة، فانتظمت السورتان جزاء المقربين على أتم الوجوه، والله أعلم بأسرار كلامه وحكمه.

 

 

قالوا: وهذا هو الجواب عن قولكم: إن الضمير يختص به أقرب مذكور إليه.

قالوا: وأما قولكم إن الظالم لنفسه إنما هو الكافر فقد تقدم جوابه وذكر ما يبطله.

قالوا: وأما قولكم: إن هذا الآيات نظير آيات الواقعة وسورة الإنسان وسورة المطففين في تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: أصحاب الشمال، وأصحاب اليمين، والمقربون.

فلا ريب أن هذه الآية وافية بالأقسام الثلاثة مع مزيد تقسيم آخر وهو تقسيم أصحاب اليمين إلى ظالم لنفسه ومقتصد فهي مشتملة على تلك الأقسام وزيادة.

 

 

قالوا: وأما قولكم: إن الآثار الدالة على أن الأصناف الثلاثة هم السعداء أهل الجنة ضعيفة لا تقوم بها حجة فجوابه: إنها قد بلغت في الكثرة إلى حد يشد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض، ونحن نسوق م نها آثارا غير ما ذكرناه يعلم به كثرتها وتعدد طرقها، فروى ابن مردويه في تفسيره من حديث سفيان عن الأعمش عن رجل عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال: اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي وسق لي جليسا صالحا. فقال أبو الدرداء: إن كنت صادقا لأنا أسعد بذلك منك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } [فاطر: 32]، مقال: أما السابق بالخيرات فيدخله الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم والحزن ثم يدخل الجنة ثم قرأ هذه الآية: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور}[فاطر: 34].

 

 

وقد ذكرنا فيما تقدم حديث أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن أسامة بن زيد في قوله تعالى:

{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلهم من هذه الأمة".

وروى ابن مردويه أيضا من حديث الفضل بن عميرة القيسي عن ميمون بن سياه عن أبي عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سابقنا سابق ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له"، وقرأ عمر: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ }.

 

 

وروى أيضا من حديث أبي داود عن شعبة عن الوليد بن العيراز قال: سمعت رجلا من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا }، قال "كلهم في الجنة"، أو قال: "كلهم بمنزلة واحدة". قال شعبة: أحدهما، ورواه دواد بن إبراهيم عن شعبة به وقالوا: دخلوا الجنة كلهم بمنزلة واحدة. فهذا حديث صحيح إلى شعبة وإذا كان شعبة في حديث لم يطرح، بل شد يديك به. ورواه يحيى بن سعيد عن الوليد بن العيزار فذكره بمثله، وروى محمد بن سعد عن أبيه عن عمه: حدثنا أبي عن أبيه عن ابن عباس في قوله عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } الآية، قال: جعل الله أهل الإيمان على ثلاث منازل كقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ } {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ }، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } فهم على هذا المثال.

 

 

 

قلت: يريد ابن عباس أن الله قسم أصحاب اليمين إلى ثلاث منازل كما قسم الخلق في الواقعة إلى ثلاث منازل، فإن أصحاب الشمال المذكورين في الواقعة هم الكفار المنكرون للبعث، فكيف تكون هذه منزلة من منازل أهل الإيمان؟ ويجوز أن يريد أن الظالمين لأنفسهم المستحقين للعذاب هم من أهل الشمال، ولكن إيمانهم يجعلهم آخرا من أهل اليمين. وروي من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي (طلحة) عن ابن عباس في هذه الآية فقال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله (سبحانه) كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.

 

 

وروي من حديث عثمان بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا عمران بن محمد بن أبي ليلى، حدثنا أبي عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب- أو عن رجل عن البراء بن عازب- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ }، قال: "كلهم ناج وهي هذه الأمة".

ورواه الفريابي حدثنا سفيان عن أبي ليلى عن الحكم عن رجل حدثه عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } الآية، قال "كل ناج".

 

 

وقال آدم بن أي إياس: حدثنا أبو فضالة عن الأزهري عبد الله الخزاز، حدثنا من سمع عثمان بن عفان يقول: ألا إن سابقنا أهل جهادنا، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا ألا وإن ظالمنا أهل بدونا، وقد تقدم حديث عائشة وأبي الدرداء وحذيفة. قالوا: فهذه الآثار يشد بعضها بعضا، وأنها قد تعددت طرقها واختلفت مخارجها وسياق الآية يشهد لها بالصحة فلا يعدل عنها.

 

 

والمقصود الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إياها، فلنرجع إليه فنقول: أما الأشقياء فقطعوا تلك المراحل سائرين إلى دار الشقاء متزودين غضب الرب سبحانه ومعاداة كتبه ورسله ما بعثوا به، ومعاداة أوليائه والصد عن سبيله، ومحاربة من يدعو إلى دينه، ومقاتلة الذين يأمرون بالقسط من الناس، وإقامة دعوة غير دعوة الله التي بعث بها رسله لتكون الدعوة له واحدة، فقطع هؤلاء الأشقياء مراحل أعمارهم في ضد ما يحبه الله ويرضاه، وأما السائرون إليه فظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته وإيثار شهواته ولذاته على مراضي الرب سبحانه وأوامره مع إيمانه بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر،لكن نفسه مغلوبة معه مأسورة مع حظه وهواه، يعلم سوء حاله ويعترف بتفريطه ويعزم على الرجوع إلى الله، فهذا حال المسلم.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ ظلم النفس نوعان

  • الولادة نوعان

    الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

    التوبة إلى الله و الإنابة إليه سبحانه تعد ولادة جديدة للمرء ، إذ إنَّ مثل ظلمة الذنوب المحيطة بالعبد كمثل

    04/11/2017 2321
  • المفاخرة نوعان مذمومة ومحمودة

    فريق عمل الموقع

       ثم أخبر سبحانه وتعالى عنها انها يفاخر بعضنا بعضا بها فيطلبها ليفخر بها على صاحبه وهذا حال كل

    30/09/2012 3289
  • العلم و العمل

    فريق عمل الموقع

      العلم والعمل وما هما العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس. والعمل: نقل صورة

    17/01/2012 2810
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day