عاشوا مع القرآن فتغيرت حياتهم
الحمد لله الَّذي جعل القرآن هدًى للمتَّقين، ونورًا للمستبصرين، وهاديًا لأقوم سبيلٍ، ومعينًا وخيرَ دليلٍ، فهدى به من الغواية، وبصَّر به العمى، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا الَّذي خُلُقه القرآن، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ، إلى يوم الحشر والفرقان.
وبعد: فهذه كلماتٌ مختصرةٌ، تحكي أحوال بعض من عاشوا مع القرآن، وأثّر القرآن في حياتهم، فهذا تغيرت بوصلة حياته، وذاك ربَّى أطفاله على التَّدبُّر، وثالث نقل تجربته إلى غيره، فأحببنا أن نسطرها لكم، لتكون عونًا لنا على السَّعي الحثيث للعيش مع القرآن: تلاوةً وتدبُّرًا... وقد قمنا بتقسيم هذه الأحوال إلى عدَّة أقسام، حسب التَّناسب فيما بينها، لعلَّ ذلك يكون أقرب إلى الفائدة والنَّفع.
إنهم يقرؤون ويتدبرون
1- ثلاث سنين قضيتُها في العلاجات والأطباء والأعشاب؛ لأرزق بطفلٍ، وفي يومٍ ما، وبعد أن قاربتُ الوصول إلى اليأس، كنتُ أقرأ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]، فقلتُ: إذا كان خلق السَّماوات والأرض أكبر من خلق النَّاس، فهو قادرٌ على أن يخلق جنينًا في رحمي، وما هي إلا أيَّام معدودات حتَّى حَمَلْتُ، وأنعم الله عليَّ بطفلتي الجميلة، فله الحمد والشُّكر.
2- بعد سلوكي طريق الاستقامة هجرني القريب، ولامَني البعيد، وأحسستُ بالوحشة، بدأت بلَوم نفسي لعلِّي أخطأتُ الطَّريق، وفي يومٍ بلغ الأمر مبلغه، وأنا أقرأ حزبي من القرآن استوقفتني آيةٌ: {وَاللَّـهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النِّساء: 27] فعاد السُّكونُ إلى قلبي، وأحسست ببرد اليقين.
3- كنت أقومُ ببعض المعاصي طاعةً لزوجي، مع أنَّها محرَّمةٌ؛ تَجنُّبًا لغضبه، حتَّى قرأتُ ذات مرَّةٍ الآية: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّور: 63] فارتجف قلبي، وارتعدتْ فرائصي، وبكيتُ خوفًا، وعاهدتُ اللهَ ألا أعصيه ولو غضب زوجي.
5- لقد تأثَّرتُ بآيةٍ في كتاب الله، وكانت سبيلي للهداية، وهي قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] فقد كنتُ أردِّدُها في نفسي وأنا ذاهبةٌ للكلية وخارجةٌ منها، وفي أغلب أحوالي، مع خوفٍ واستشعارٍ لهذه الآية، والحمد لله تَغيَّر حالي، واهتديتُ بفضل الله، وأصبحتُ حافظة لكتاب الله، نسأل الله الثَّبات.
5- كثيرًا ما أشعر بتأنيبٍ لنفسي عند كسلي في القيامِ بما يجبُ على مثلي وأنا أقرأ قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصَّفّ: 2] فكنتُ إذا قلتُ قولًا ثمَّ تكاسلتُ في فعله أهذِّب نفسي بهذه الآية، فأفعل هذا الأمر من غير تكاسلٍ، ولله الحمد.
6- كانت لي قصةٌ مع هذه الآية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] فقد كنتُ طالبةً بالتَّحفيظ وتدبَّرتُها، وأثَّرتْ على سلوكي فجاهدتُ حتَّى بَلَّغني ربِّي مستوًى ومكانةً عاليةً في قلوب الجميع، ولله الحمد.
7- كادت الشَّهوةُ ترديني الهاوية -عياذًا بالله- حتَّى تدبَّرتُ قوله -تعالى-: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه: 131] جَعلتُ أردِّد وأتدبّر {خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}؛ فصغرتْ الشَّهوة في عيني.
8- حَدَثَ بيني وبين أحد إخوتي سوءُ تفاهم؛ فأرسلَ رسالةَ جوال تحمل اتهامات باطلةً، وظنونًا سيِّئةً، وكلماتٍ مؤلمةً؛ فغضبتُ وكدت أن أدفعَ الإساءةَ بمثلها، فقرأتُ قولَ أحد ابني آدم: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: ] فعَلمتُ أنَّ المؤمن يجب أن يجعل خوف الله نصْبَ عينيه، ولا تغلبه حظوظ النَّفس، وتأخذه العزة بالإثم؛ فآثرت كظمَ غيظي، والعفو عنه، والإحسان إليه.
9- كان بيني وبين الصُّحبةِ الصَّالحة بعضُ المشاكل حتَّى وسوس لي الشَّيطان تَرْكَهم، فقرأتُ قوله -تعالى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] فكان ذلك أعظمَ مثبِّتٍ لي معهم.
10- كنتُ أُصَلّي بالنَّاس في صلاة التَّراويح، فلمَّا قرأتُ في سورة العنكبوت قوله -تعالى-: {أَوَ لَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّا أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ الۡكِتَابَ يُتۡلَى عَلَيۡهِمۡ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَرَحۡمَةً وَذِكۡرَى لِقَوۡمٍ يُؤۡمِنُونَ} [العنكبوت: 51] تأثَّرتُ كثيرًا، وبكيتُ بكاءً وجدتُ له طعمًا ولذَّةً، وطال وقوفي عندها، وأنا أتأمَّل كفاية القرآن، وما فيه منَ الرَّحمة والذِّكرى.
11- {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس: 3] كنتُ سابقًا أهتم في شؤون الحياة كثيرًا، وأرهق نفسي بذلك، وعندما تفكَّرْتُ في هذه الآية؛ أيقنت أن الله -جلَّ وعلا- هو المدبِّر المتصرِّف في خلقه، وأنَّ على المؤمن أن يتوكَّل على الله، ويعمل بالأسباب.
12- في ظِلِّ التَّقلُّبات والاضطرابات العالميَّة والإقليميَّة، ما قرأتُ هذه الآية إلا أضافتْ إلى نفسي نوعًا من الاطمئنان، وهي قول الحقِّ -تعالى-: {وَلِلَّـهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح: 4].
13- حفظتُ القرآنَ وعمري (11 عامًا)، ثمَّ ضَيَّعتُ ما حفظتُ، ثمَّ وقفتُ يومًا متدبِّرًا لهذه الآية: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، فعَقدتُ العزمَ مستعينًا بالله؛ فراجعتُ القرآن وأتقنتُه، وحَصَلْتُ على إجازتين في الإقراء، وأصبحتُ إمامًا وخطيبًا لأحد المساجد.
14- كنتُ أستغفرُ وأتوبُ باستمرارٍ، فجاءني الشَّيطانُ قائلًا: كلُّ هذا الاستغفار! ولا فرج ولا إجابة! فتركتُ وساوسَه، فقرأتُ رسالةً عظيمةً من ربِّي، وهي قوله -تعالى-: {مَّا يَفْعَلُ اللَّـهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ} [النِّساء: 147]، فقلتُ: نعم! والله إن ربنا لغني عَنّا، وعن تعذيبِنا! إنما هي ذنوبنا التي نسينا كثيرًا منها، فأَدَمْتُ الاستغفار، والحمد لله.
15- كنتُ كثيرةَ العصيانِ في أوقاتِ الخلوة، وأشْعُرُ بالنَّدم وأنا لوحدي، وبعد فترة كنتُ مع رفقةٍ صالحةٍ، وتذكّرتُ أمري، ودعوتُ الله أن يغفرَ لي، وأمسكتُ المصحف؛ فوَقعَتْ عيني على قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]، فبكيتُ، وعزمتُ على تزكيةِ نفسي؛ لتكونَ أهلًا للمغفرة.
16- {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21]، هذه الآيةُ كانت درسًا لي، عندما قرأتُها شَعرتُ كأني المخاطبة.. أريد الجنَّة، وأريد رؤيةَ الله -سبحانه-! لكن أين العمل؟! ومن لحظتها قرَّرتُ الاجتهادَ في العمل الصَّالح.
17- من أعظم الأشياء الَّتي كانت تصدُّني عنِ التَّوبة: تلبيس الشَّيطان عليّ في القنوط من رحمة الله، وأنِّي صاحب ذنبٍ لا يُغتفر؛ حتَّى قرأت: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} إلى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّـهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة: 73-74] فإذا كان اللهُ فَتَحَ بابَ التَّوبةِ لمن نَسَبَ له الصَّاحبة والولدَ فكيف بمن دونه!
18- أنا طالبُ علم، وذاتُ مرّةٍ توقَّفْتُ عند قوله -تعالى-: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزُّمر: 9] فبكيت كثيرًا على ضياع ليال كثيرة، وأنا لم أُشرّف نفسي بالانتصاب قائمًا لربِّي ولو لدقائق، فكان هذا البكاءُ مفتاحًا لبدايةٍ أرجو أن لا تتوقف حتَّى ألقى ربِّي.
19- {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49] من عشرين عامًا كُلّما قرأتُها أشْعر أنني أنا المخاطب بها، وأُحاول استعراض ما فعلتُ في الأسبوع، وأعلم أنَّ السَّيِّئات كُتِبت ورُفعت إلى يوم الحساب، ولن يُنجيني سوى كثرةِ الاستغفارِ والتَّوبة.
20- قد يَضيقُ صدرُك إذا سمعت ما يؤلمُك، وقد تحزن لذلك، وقد تهتمُّ كثيرًا، فتحتاج لمن يرأفُ على قلبك، ويُذهبُ ما أهمك، تدبَّرتُ أواخر سورة الحجر: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴿97﴾ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97-98]، فوجدتُ العلاجَ الشَّافي الكافي، فيا لعظمة هذا القرآن وجميل لذَّته!
21- {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشُّورى: 37] أذْكُرُ أنني في ليلة اختلفت مع زوجي وغضبتُ، وبعد أن خَرَج من المنزل أخذتُ المصحفَ لأَقرأ، وبدون تَعمُّد فتحتُ صفحة وبدأت أقرأ، حتَّى مررتُ بهذه الآية، ووالله لكأنَّني أوَّل مرَّة أعلمُ أنها آيةٌ من كتاب الله، فرددتها مرارًا فوجدتُ بردَها على قلبي، وهدأ غضبي وقرَّرت الصَّفْحَ عن شريكِ حياتي استجابةً لأمرِ ربِّي.