قضاء الفرائض
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
موضوعنا هو عن حكم من تاب وقد ترك الفرائض عمداً، وأهم من ذلك وأعظمه الصلاة، فماذا يفعل الإنسان إذا أمضى شطراً من عمره، وهو تارك لهذه الفريضة، فأراد الله تبارك وتعالى ومَنَّ الله عليه بالتوبة فهل يقضي أم ماذا يفعل؟ نذكر كلاماً لـشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، إذ له كلام نفيس في الجزء الثاني والعشرين من الفتاوى لم أجده عند غيره ابتداءً من صفحة (40) فنذكر الأدلة :
الدليل الأول: أن الصحابة الذين ظنوا أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الذي يعرفه عامة الناس، فوضعوا حبلين ولم يعلموا أن المقصود هو بياض النهار وسواد الليل، فهذا من الأدلة التي تدل على أن الإنسان لا يقضي ما فعله وهو جاهل لم يبلغه التكليف، أو لم يبلغه الخطاب.
الدليل الثاني: قصة عمر وعمار رضي الله عنها التي رواها الإمام البخاري وغيره لما قال عمار لـعمر: يا أمير المؤمنين أتذكر لما كنت أنا وأنت في سفر فأجنبنا، فأما أنت فانتظرت ولم تصل، وأما أنا فتمرغت كما تتمرغ الدابة، ثم أتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يأمر عمر ولا عماراً بإعادة الصلاة.
الدليل الثالث: دليل المستحاضة كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ أنها قالت : إني أستحاض حيضةً شديدة تمنعني من الصلاة، فدل ذلك على أنها كانت لا تصلي أثناء الاستحاضة، ومع ذلك لم يأمرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإعادة، لأنها اجتهدت وكانت تجهل أنها مخاطبة بذلك، وظنت أن الاستحاضة كالحيض تمنع المرأة من الصلاة.
الدليل الرابع: الكلام في الصلاة كما في قصة معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم.
الدليل الخامس: لما زِيد في صلاة الحضر، وقد كانت الصلاة ركعتين كما روت عائشة رضي الله عنها فأقرت في السفر -أي بقيت ركعتين- وزِيدت في الحضر، فأصبحت الثنائية أربع ركعات ما عد الفجر، فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر من كان بعيداً عنه، كمن كان بـمكة أو بـأرض الحبشة أن يعيدوا ما فاتهم من صلوات بعد أن صارت بعضها رباعية.
الدليل السادس: لما فرض شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة، فإن الخبر بذلك لم يبلغ المسلمين الذين كانوا مهاجرين في أرض الحبشة حتى فات ذلك الشهر ولم يأمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يعيدوا صيامه.
الدليل السابع: لما حوِّلت القبلة، بعض الأنصار ذهبوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة -قبل الهجرة كما ذُكر- وكان بعضهم قد صلّى إلى الكعبة معتقداً جواز ذلك قبل أن يؤمر باستقبال الكعبة، والطائفة الأخرى الذين استقبلوا بيت المقدس بعد أن نزل الأمر باستقبال الكعبة كلا الفريقين عذَرَهُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يأمره بالإعادة.
الدليل الثامن: لما سئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بـالجعرانة عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو متمضخ بالخلوق فلما نزل الوحي قال له:(انزع عنك جبتك واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت صانعاً في حجك) فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: '' فهذا قد فعل محذوراً من محذورات الحج، ولم يأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك بدم، ولو فعل ذلك مع العلم للزمه الدم، وإنما فعله قبل أن يبلغه الخطاب بالتكليف''.
الدليل التاسع هو: أنه ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: (صل فإنك لم تصل -ثلاث مرات- وهو في كل مرة يرد الرجل، ويأمره بأن يصلي -لأنه لم يصل الصلاة المشروعة- فقال الأعرابي -بعد الثالثة-: والذي بعثك بالحق، لا أحسن غير هذا فعلمني ) فعلمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة، ولم يأمره بإعادة ما كان قد صلى قبل ذلك، وقد مرت على الأعرابي أوقات وهو يصلي بهذه الصورة لقوله: ( والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا ) فلم يأمره النبي بالإعادة لأنه قد فعل غاية علمه، وقدر استطاعته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.