مراتب العبودية
من شأْن القوم أَن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذى يخالف تدبير [ربهم] تعالى واختياره، بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره ولا اختيارهم اختياره، لتيقنهم أَنه الملك القاهر القابض على نواصى الخلق المتولى [لتدبير] أَمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أَنه الحكيم فى أَفعاله الذى لا تخرج أَفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة، فلم يدخلوا أَنفسهم معه فى تدبيره لملكه وتصريفه أُمور عباده بلو كان كذا وكذا، ولا بعسى ولعل ولا بليت، بل ربهم [تعالى] أَجل وأَعظم فى قلوبهم من أَن يعترضوا عليه أَو يتسخطوا تدبيره أو يتمنوا سواه، وهم أَعلم به وأعرف بأسمائه وصفاته من أَن يتهموه فى تدبيره أَو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله، بل هو ناظر بعين قلبه إلى باريء الأَشياء وفاطرها، ناظر إلى إتقان صنعه، مشاهد لحكمته فيه وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر وعوائدهم ومألوفاتهم.
قال بعض السلف: لو قرض جسمى بالمقاريض أَحب إِلى من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه.
وقال آخر: أَذنبت ذنباً أبكى عليه منذ ثلاثين سنة. وكان قد اجتهد فى العبادة قيل له: ما هو؟ قال: قلت مرة لشيء كان: ليته لم يكن. وبعض العارفين يجعل عيب المخلوقات وتنقيصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها، لأنها صنعه وأَثر حكمته، وهو سبحانه أحسن كل شيء فى خلقه وأَتقن كل شيء وهو أحكم الحاكمين وأَحسن الخالقين، له فى كل شيء حكمة بالغة وفى كل مصنوع صنع متقن، والرجل إذا عاب صنعة [رجل آخر وذمها سرى ذلك إلى صانعها فمن عاب صنعة] الرب سبحانه بلا إذنه سرى ذلك إلى الصانع، لأنه كذلك صنعها عن حكمته أظهرها، إذ كانت الصنعة مجبولة لم تصنع نفسها ولا صنع لها فى خلقها.
[والعارف] لا يعيب إلا ما عابه الله ولا يذم إلا ما ذمه، وإذا سبق إلى قلبه ولسانه عيب ما لم يعبه الله وذم ما لم يذمه الله تاب إلى الله منه كما يتوب صاحب الذنب من ذنبه فإنه يستحى من الله أن يكون فى داره وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها، فهو يرى نفسه بمنزلة رجل دخل إلى دار ملك من الملوك ورأَى ما فيها من الآلات والبناء والترتيب، فأَقبل يعيب منها بعضها ويذمه ويقول: لو كان كذا بدل كذا لكان خيراً، ولو كان هذا فى مكان هذا لكان أَولى وشاهد الملكَ يولى ويعزل ويحرم ويعطى فجعل يقول: لو ولى هذا مكان فلان كان خيراً، ولو عزل هذا المتولى لكان أَولى، ولو عوفى هذا.. ولو أَغنى هذا.. فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض وإخراجه له من قربه؟ وكذلك لو أضافه صاحب له فقدم إليه طعاماً فجعل يعيب صفته ويذمه، أَكان ذلك يهون على صاحب الطعام؟ قالت عائشة: "مَا عَابَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إِن اشتهى شيئاً أَكله وإِلا تركه".
والمقصود أن من شأْن القوم ترك الاهتمام بالتدبير والاختيار، بل همهم كله فى إقامة حقه عليهم، وأَما التدبير العام والخاص فقد سلموه لولى الأَمر كله ومالكه الفعال لما يريد.
ولعلك تقول: من ذا الذى ينازع الله فى تدبيره؟ فانظر إلى نفسك- فى عجزها وضعفها وجهلها- كيف هى [عرضة] للمنازعة منازعة جاهل عاجز ضعيف لو قدر لظهرت منه العجائب، فسبحان من أَذله بعجزه وضعفه وجهله، وأَراه العبر فى نفسه لو كان ذا بصر: كيف هو عاجز القدرة، جبار الإرادة، عبد مربوب، مدبر مملوك ليس له من الأَمر شيء، وهو مع ذلك ينازع الله ربوبيته وحكمته وتدبيره، لا يرضى بما رضى الله به، ولا يسكن عند مجارى أَقداره، بل هو عبد ضعيف مسكين يتعاطى الربوبية، فقير مسكين فى مجموع حالاته، ويرى نفسه غنياً، جاهل ظالم ويرى نفسه عارفاً محسناً، فما أجهله بنفسه وبربه، وما أتركه لحقه [وأَشده] إضاعته لحظه، ولو أَحضر رشده لرأَى ناصيته ونواصى الخلائق بيد الله سبحانه وتعالى يحفظها ويرفعها كيف [شاء] وقلوبهم بيده سبحانه وفى قبضته يقلبها كيف يشاءُ، يزيغ منها من يشاءُ ويقيم من يشاءُ، ولكان هذا غالباً على شهود قلبه فيغيب به عن مشيئاته وإرادته واختياره، ولعرف أَن التدبير والركون إلى حول العبد وقوته من الجهل بنفسه وبربه، فينفى العلمُ بالله الْجهلَ عن قلبه، فتمحى منه الإرادات والمشيئات والتدبيرات، ويفوضها إلى مالك القلوب والنواصى، فصير بذلك عبداً لربه تقلبه يد القدرة، ويصير ابن وقته لا ينتظر وقتاً آخر يدبر [نفسه فيه]، لأن ذلك الوقت بيد موقته، فيرى نفسه بمنزلة الميت فى قبره ينتظر ما يفعل به، مستسلم لله منقطع المشيئة والاختيار.
هذا ما يجرى على أحدهم من فعل الله وحكمه وقضائه الكونى، فإذا جاءَ الأَمر جاءت الإِرادة والاختيار [ السعى والجد] واستفراغ الفكر وبذل الجهد، فهو قوى حى فعال يشاهد عبودية مولاه فى أَمره، فهو متحرك فيها بظاهره وباطنه قد أَخرج مقدوره من القوة إلى الفعل، وهو مع ذلك مستعين بربه قائم بحوله وقوته ملاحظ لضعفه وعجزه قد تحقق بمعنى: {إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فهو ناظر بقلبه إِلى مولاه الذى حركه، مستعين به فى أَن يوفقه لما يحبه ويرضاه، عينه فى كل لحظة شاخصة إلى حقه المتوجه عليه لربه ليؤديه فى وقته على أَكمل أحواله، فإِذا وردت عليهم أَقداره التى تصيبهم بغير اختيارهم قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على مراتب ثلاثة:
إحداها: الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه، وهذا نشأَ من مشاهدتهم للطفه فيها وبره وإِحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم حكمته فيها ونصبها سبباً لمصالحهم، وشوقهم بها إلى حبه ورضوانه، ولهم من ذلك مشاهد أُخر لا تسعها العبارة وهى فتح من الله على العبد لا يبلغه علمه ولا عمله.
المرتبة الثانية: شكره عليها كشكره على النعم وهذا فوق الرضا عنه بها ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، فهذه مرتبتان لأَهل هذا الشأْن.
والثالثة: للمقتصدين وهى مرتبة الصبر التى إذا نزل منها نزل إلى نقصان الإيمان وفواته من التسخط والتشكى، واستبطاءِ الفرج، واليأْس من الروح والجزع الذى لا يفيد إلا فوات الأَجر وتضاعف المصيبة.
فالصبر أول منازل الإيمان ودرجاته وأوسطها وآخرها، فإن صاحب الرضا والشكر لا يعدم الصبر فى مرتبته، بل الصبر معه وبه يتحقق الرضا والشكر، [و] لا تصور ولا تحقق لهما دونه، وهكذا كل مقام مع الذى فوقه، كالتوكل مع الرضا، وكالخوف والرجاء مع الحب، فإِن المقام لا ينعدم بالترقى إلى الآخر ولو عدم لخلفه ضده، وذلك رجوع إلى نقص الطبيعة وصفات النفس المذمومة، وإِنما يندرج حكمه فى المقام الذى أَعلى منه فيصير الحكم له كما يندرج مقام [المتوكل] فى مقام المحبة والرضا، وليس هذا كمنازل سير الأَبدان الذى إذا قطع منها منزلاً خلفه وراءَ ظهره واستقبل المنزل الآخر معرضاً عن الأَول بارتحاله، بل هذا كمنزلة التاجر الذى كلما باع شيئاً من ماله وربح فيه، ثم باع الثانى وربح فقد ربح بهما معاً، وهكذا أبداً يكون ربحه فى كل صفقة متضاعفاً بانضمامه إلى ما قبله، فالربح الأول اندرج فى الثانى ولم يعدم.
فتأمل هذا الموضع واعطه حقه يزل عنك ما يعرض من الغلط فى علل المقامات وتعلم أَن دعوى المدعى أَنها من منازل العوام ودعوى أنها معلولة غلط من وجهين،
أَحدهما: أَن أَعلى المقامات مقرون بأَدناها مصاحب له كما تقدم، متضمن له تضمن الكل لجزئه، أَو مستلزم له استلزام الملزوم للازمه لا ينفك عنه أبداً، ولكن لاندراجه فيه وانطواءِ حكمه تحته يصير المشهد والحكم للعالى.
الوجه الثانى: أن تلك المقامات والمنازل إِنما [تكون فى] منازل العوام وتعرض لها العلل بحسب متعلقاتها وغاياتها، فإِن كان متعلقها وغاياتها بريئاً من شوائب العلل وهو أجلّ متعلق وأَعظمه فلا علة فيها بحال، وهى من منازل الخواص [حينئذ وإن كان متعلقاً خطأً للعبد أو أمراً موشباً بخطه فهى معلولة] من جهة تعلقها بحظه ولنذكر لذلك أمثلة
المثال الأول: الإِرادة، فإن الله جعلها من منازل صفوة عباده، وأَمر رسوله أن يصبر نفسه مع أَهلها فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] وقال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجزِى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله} [الليل 19-20]، وقال حكاية عن أوليائه قولهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ} [الإنسان: 9]، وهى لام التعليل الداخلة على الغايات المرادة، وهى كثيرة فى القرآن، فقالت طائفة: الإرادة حلية العوام، وهى تجريد القصد، وجزم النية، والجد فى الطلب، وذلك غيره فى طريق الخواص: [نقص و] تفرق، ورجوع إلى النفس.
فإن إرادة العبد عين حظه وهو رأْس الدعوى، وإِنما الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد، كقوله تعالى: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، فيكون مراده ما يراد به واختياره ما اختير له، إِذ لا إِرادة للعبد مع سيده ولا نظر، كما قال:
أُريد وصاله ويريد هجرى فأَترك ما أُريد لما يريد
ومن هذا قول أبى [يزيد]: قيل لى ما تريد؟ قلت أريد أن لا أريد، لأنى أنا المراد وأنت المريد.
فيقال ليس المراد من "العوام" فى كلامهم العامة الجهال، وإِنما مرادهم بهذه اللفظة عموم السالكين، دون أَهل الخصوص الواصلين منازل [إلى] الفناءِ وعين الجمع. وإذا عرف هذا فالكلام على ما ذكر فى الإرادة من وجه:
أحدها: أَن الإِرادة هى مركب العبودية، وأَساس بنائها الذى لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إِرادة له، بل أَكمل الخلق أكملهم عبودية ومحبة وأصحهم حالاً وأقومهم معرفة وأتمهم إِرادة، فكيف يقال: إنها حلية العوام أو من منازل العوام.
الوجه الثانى: أنه يلزم من هذا أن تكون المحبة من منازل العوام، وتكون معلولة أيضاً لأنها إرادة تامة للمحبوب ووجود المحبة بلا إرادة كوجود الإنسانية من غير حيوانية وكوجود مقام الإحسان بدون الإيمان [والإسلام]، فإذا كانت الإرادة معلولة وهى من منازل العوام لزم أن تكون المحبة كذلك.
فإِن قيل: المحبة التى لا علة فيها هى تجرد المحب عن الإرادة وفناؤه بإرادة محبوبه عن إرادته، قيل: هذا هو حقيقة الإِرادة أَن يبقى مراده مراد محبوبه، فلو لم يكن مريداً لمراد محبوبه لم يكن موافقاً له فى الإرادة.
والمحبة هى موافقة المحبوب فى إرادته فعاد الأمر إلى ما أشرنا إليه أن المعلول من ذلك ما تعلق بحظ المريد دون محبوبه، فإذا صارت إرادته موافقة لإرادة محبوبه لم تكن تلك الإرادة من منازل العوام ولا معلولة، بل هذه أشرف منازل الخواص وغاية مطالبهم، وليس وراءَها إلا التجرد عن كل إرادة والفناء بشهوده عن إرادة ما يريد، وهذا هو الذى يشير إليه السالكون إلى منازل الفناء ويجعلونه غاية الغايات، وهذا عند أهل الكمال نقص وتغيير فى وجه المحبة وهضم لجانب العبودية وفناء بحظ المحب من مشاهدته جمال محبوبه وفنائه فيه عن حق المحبوب ومراده، فهو الوقوف مع نفس الحظ والهروب عن حق المحبوب ومراده، وهل مثل هذا إلا كمثل رجلين ادعيا محبة ملك فحضرا بين يديه فقال: ما تريدان؟ فقال أحدهما: أُريد أَن لا أُريد شيئاً بل أَفنى عن إِرادتى وأَكون أنا المراد وأنت تريد بى ما تشاءُ.
وقال الآخر: [بل] أُريد أن أُنفق أَنفاسى وذراتى فى محابك ومرضاتك منفذاً لأَوامرك مشمراً فى طاعتك: أَتوجه حيث توجهين وأفعل ما تأْمرنى، هذا الذى أريده.
فقال للآخر: وأنا أريد منك أن تفعل مثل هذا، فإنى سأبعثكما فى أشغالى ومهماتى، فأما أحدهما فقال: لا حظ لى سوى اتباع مرضاتك والقيام بحقوقك، وقال الآخر: لا أُريد إلا مشاهدتك والنظر إليك والفناء فيك، فهل يكونان فى نظره سواءٌ، وهل تستوى منزلتهما عنده؟ ولو أَنعموا النظر لعلموا أن صاحب الفناءِ هو طالب [الحظ] الواقف معه، وأن الآخر وإن لم ينسلخ من الحظ ولكن حظه مراد المحبوب منه لا مراده هو من المحبوب، وبين الأَمرين من الفرق كما بين الأرض والسماءِ.
فالعجب ممن يفضل صاحب الحظ الذى يريده من محبوبه على من صار حظه مراد محبوبه منه، بل الفناء الكامل أن يفنى بإِرادته عن إِرادة [ما] سواه وبحبه عن حب ما سواه وبرجائه عن رجاءِ ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، ليس أن تفنى بحظك منه عن مراده منك. وهذا موضع يشتبه علماً وحالاً وذوقاً إلا على من فتح الله عليه بفرقان بين هذا وهذا.
الوجه الثالث: أن الإرادة إنما تكون ناقصة بحسب نقصان المراد، فإذا كان مرادها أشرف [المراد] فإرادته أشرف الإرادات، ثم إذا كانت الوسيلة إليه أجل الوسائل وأنفعها وأكملها فإرادتها كذلك، فلا تخرج إرادته عن إرادة أشرف الغايات وإرادة أقرب الوسائل إليه وأنفعها، فأى علة فى هذه الإرادة وأَى شيء فوقها للخواص؟
الوجه الرابع: أن نقصان الشيء يكون من وجهين، أحدهما: أن يوجب ضرراً، والثانى: أن تكون له ثمرة نافعة، لكن يشغل عما هو أَكمل منه، وكلاهما منتف عن الإرادة، فكيف تكون ناقصة معلولة؟ فإن قيل: لما كان الوقوف معها رجوعاً إلى النفس وتفرقاً ووقوفاً مع حظ المريد كانت ناقصة، قيل: هذا منشأْ الغلط.
وجوابه بالوجه الخامس: وهو أن يقال: قوله: "إن [الإرادة] تفرق"، فإن أردتم بالتفرق شهود المريد لإرادته [لمرادته] ولعبوديته ولمعبوده ولمحبته ولمحبوبه فلم قلتم: إن هذا التفرق نقص؟ وهل هذا إلا عين الكمال، وهل تتم العبودية إلا بهذا؟ فإن من شهد عبوديته وغاب بها عن معبوده كان محبوباً، ومن شهد المعبود وغاب به عن شهود عبوديته وقيامه بما أَمره به كان ناقص العبودية ضعيف الشهود، وهل الكمال إلا شهود المعبود مع شهود عبادته، فإِنها [عين] حقه ومراده ومحبوبه من عبده، فهل يكون شهود العبد لحق محبوبه ومراده منه وأَنه قائم به ممتثل له نقصاً، ويكون غيبته عن ذلك وإعرضه عنه وفناؤه عن شهوده كمالاً، وهل هذا إلا قلب للحقائق؟ فغاية صاحب هذا الحال والمقام أَن يكون معذوراً بضيق قلبه عن شهود هذا، وهذا إما لضعف المحل أو لغلبة الوارد وعجزه عن احتمال شيء آخر معه، [فأما] أن يكون هذا هو الكمال المطلوب والآخر نقص فكلا.
وأين مقام من يشهد عبوديته ومنة الله عليه فيها وتوفيقه لها وجعله محلاً وآلة [لها]- وهو ناظر مع ذلك إلى معبوده بقلبه، شاهداً له، فانياً عن شهود غيره فى عبوديته- من مقام من لا يتسع لهذا وهذا؟ وتأَمل حال أَكمل الخلق وأَفضلهم وأشدهم حباً لله [صلى الله عليه وسلم] كيف كان فى عبادته جامعاً بين الشهودين، حتى كان لا يغيب عن أَحوال المأْمومين فضلاً عن شهود عبادته، فكان يراعى أحوالهم وهو فى ذلك المقام بين يدى ربه سبحانه، فالكلمة من أُمته [عن] منهاجه وطريقته [فى ذلك] صلى الله عليه وسلم، فالواجب التمييز بين المراتب وإعطاءُ كل ذى حق حقه، فقد جعل الله لكل شيء قدراً.
وإِن أَردتم بالتفرق شتات القلب فى شعاب الحظوظ وأَودية الهوى، فهذه الإِرادة لا تستلزم شيئاً من ذلك، بل هى جمعية القلب على المحبوب وعلى محابه ومراداته، ومثل هذا التفرق هو عين البقاءِ ومحض العبودية ونفس الكمال، وما عداه فمحض حظ العبد لا حق محبوبه.
الوجه السادس: أن قوله: "إن الإرادة رجوع إلى النفس، وإن إِرادة العبد عين حظه" كلام فيه إجمال وتفصيل، فيقال: ما تريدون بقولكم: "إن الإِرادة رجوع إلى النفس"؟ أَتريدون أنها رجوع عن إرادة الرب وإرادة محابه إلى إرادة النفس وحظوظها، أم تريدون أنها رجوع إلى إرادة النفس لربها ولمرضاته؟ فإِن أَردتم الأول علم أن هذه الإرادة معلولة ناقصة فاسدة، ولكن ليست هذه الإرادة التى نتكلم فيها.
وإن أردتم المعنى الثانى فهو عين الكمال، وإنما النقصان خلافه.
الوجه السابع: أن قولكم: "إن هذه الإرادة عين حظ العبد" قلنا: نعم وهى أكبر حظ له وأجله وأعظمه، وهل للعبد حظ أشرف من أن يكون الله وحده إِلهه ومعبوده ومحبوبه ومراده؟ فهذا هو الحظ الأَوفر والسعادة العظمى، ولكن لم قلتم: "إن اشتغال العبد بهذا الحظ نقص [فى] حقه"، وهل فوق هذا كمال فيطلبه العبد؟ ثم يقال: لو كان فوقه شيء أكمل منه لكان اشتغال العبد به وطلبه إياه اشتغالاً بحظه أيضاً، فيكون ناقصاً، فأَين الكمال؟ فإِن قلتم: فى تركه حظوظه كلها، قيل لكم: وتركه هذا الحظ أيضاً هو من حظوظه، فإِنه [لا] يبقى معطلاً فارغاً خاو من الإرادة أصلاً، بل لا بد له من إرادة ومراد، وكل إِرادة [عندكم] رجوع إلى الحظ، فأَى [شيء إشتغل] به وبإِرادته كان وقوفاً عن حظه، فيالله العجب متى يكون عبداً محضاً خالصاً لربه؟
يوضح هذا الوجه الثامن: أن الحى لا ينفك عن الإرادة ما دام شاعراً بنفسه، وإِنما ينفك عنها إِذا غاب عنه شعوره بعارض من العوارض، فالإرادة من لوازم الحياة فدعوى أَن الكمال فى التجرد عنها دعوى باطلة مستحيلة طبعاً وحساً، بل الكمال فى التجرد عن الإِرادة التى تزحم مراد المحبوب، لا عن الإرادة التى توافق مراده.
الوجه التاسع: قوله: "الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد... إلخ" فيقال: هذا على نوعين، أحدهما: ما يراد بالعبد من المقدور الذى يجرى عليه بغير اختياره كالفقر والغنى والصحة والمرض والحياة والموت وغير ذلك، فهذا، لا ريب أن الكمال فناء العبد فيه عن إِرادته، ووقوفه مع ما يراد به لا يكون له إِرادة تزاحم إرادة الله منه، كحال الثلاثة الذين قال أحدهم: أَنا أُحب الموت للقاءِ الله، وقال الآخر: أُحب البقاءَ لطاعته وعبادته، فقال الثالث: غلطتما، ولكن أَنا أُحب من ذلك ما يحب، فإن كان يحب إماتتى أَحببت الموت، وإن كان يحب حياتى أحببت الحياة، فأَنا أُحب ما يحبه من الحياة والموت.
فهذا أَكمل [منهما] وأصح حالاً فيما يراد بالعبد والنوع الثانى ما يراد من العبد من الأَوامر والقربات، فهذا ليس الكمال إلا فى إرادته، وإِن فرقته فهو مجموع فى تفرقته متفرق فى جمعيته، وهذا حال [الكُمّل] من الناس: متفرق الإِرادة فى الأَمر، مجتمع على الأَمر- فهو مجموع عليه متفرق فيه- ولا يكون فعل المرادات المختلفة بإرادة واحدة بالعين، وإنما غايتها أن تكون هنا إرادتان: إحداهما إرادة واحدة للمراد
والثانية: إرادات متفرقة لحقه ومحابه وما أَمر به فهى، وإن تعددت وتكثرت فمرجعها إلى مراد واحد بإرادة [واحدة] كلية وكل فعل منها له إرادة جزئية محضة.
الوجه العاشر: أن قول أبى يزيد: "أُريد أن لا أُريد" تناقض بيِّن، فإنه قد أَراد عدم الإرادة. فإذا قال: "أُريد أَن لا أُريد" يقال له: فقد أَردت، وأَحسن من هذا أَن يكون الجواب: أُريد ما يريد لا ما أُريد، وإذا كان لا بد من إِرادة ففرق بين الإِرادتين: إِرادة سلب الإِرادة، وإِرادة موافقة المحبوب فى مراده. والله أعلم.
الوجه الحادى عشر: أَنه فسر الإِرادة بتجريد القصد وجزم النية، والجد فى الطلب. وهذا هو عين كمال [العبد] وهو متضمن للصدق والإخلاص والقيام بالعبودية، فأَى نقص فى تجريد القصد وهو تخليصه من كل شائبة نفسانية أَو طبيعية وتجريده لمراد المحبوب وحده، والجد فى طلبه وطلب مرضاته وجزم النية وهو أَن لا يعتريها وقفة ولا تأْخير، وهذا الأَمر هو غاية منازل الصديقين، وصديقية العبد بحسب رسوخه فى هذا المقام، وكلما ازداد قربه وعلا مقامه قوى عزمه وتجرد صدقه، فالصادق لا نهاية لطلبه ولا فتور لقصده، بل قصده أَتم وطلبه أكمل ونيته. قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ الْيَقِينْ} [الحجر:99]، واليقين هنا الموت باتفاق [أهل] الإسلام، فجاء صلى الله عليه وسلم إذ جاءه وإرادته وقصده ونيته فى الذروة العليا ونهاية كمالها وتمامها، فأين العلة فى هذه الإرادة؟ ولكن العلة والنقص فى الإِرادة التى يكون مصدرها النفس والهوى، وغايتها نيل حظ المريد من محبوبه، وإن كان المحبوب يريد ذلك لكن غيره أحب إليه منه، وهو أن يكون مراده محض حق محبوبه وحصول مرضاته، فانياً عن حظه هو من محبوبه، بل قد صار حظه منه نفس حقه ومراده، فهذه هى الإِرادة والمحبة التى لا عِلَّة فيها ولا نقص.
نسأل الله تعالى أَن يمن علينا ويحيينا ولو بنفس منها، كما منّ بتعليمها ومعرفتها إِنه جواد كريم.
الوجه الثانى عشر: أَنه قال بعد هذا: "فصحة الإِرادة بذل الوسع واستفراغ الطاقة مع ترك الاختيار والسكون إِلى مجارى الأَقدار، فيكون كالميت بين يدى الغاسل يقلبه كيف يشاءُ فأَين هذا من قوله: "وذلك فى طريق الخواص نقص وتفرق"، وهل يكون بذل الوسع واستفراغ الطاقة إِلا مع تمام الإِرادة؟ وإِنما الذى يفرض له النقص من الإِرادة نوعان: أَحدهما إِرادة مصدرها طلب الحظ، والثانى اختياره فيما يفعل به بغير اختياره.
فعن هاتين الإِرادتين ينبغى الفناء، وفيهما يكون النقص، فالكمال ترك الاختيار فيهما، والسكون إلى مراد المحبوب وحقه فى الأُولى، وإِلى مجارى أَقداره وحكمه فى الثانية، فيكون فى الأُولى حياً فعالاً منازعاً لقواطعه عن مراد محبوبه، وفى الثانية كالميت بين يدى الغاسل يقلبه كيف يشاءُ.
وبهذا التفصيل ينكشف سر هذه المسأَلة، ويحصل التمييز بين محض العبودية وحظ النفس. والله الموفق للصواب.