هل أنت من المتوكلين علي الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى وعلى من تولاَّه. والقريب ممن ناجاه. والصلاة والسلام على النبي المصطفى. وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى. وبعد:
أخي المسلم: الفزع إلى ملك الملوك؛ هو شعار المؤمنين الصَّادقين.. وغاية المخلصين..
فهم قد علموا أن ربهم تعالى قريب ممن اعتصم به.. وولي من التجأ ببابه..
فاطمأنت نفوسهم إلى موعوده.. ووثقت بتأييده..
هذه محاسبة أخرى فلتقفها أيها العاقل مع نفسك.. وسؤال ينبغي أن تسأله نفسك: هل أنت من المتوكلين على الله تعالى؟!
التوكل على الله تعالى! ذلك الأصل العظيم.. والعمل الجليل!
هل وقفت يومًا على معنى التوكل؟!
هل تأملت في حقيقته؟!
ما هو التوكل على الله تعالى؟! وبم عرَّفه العارفون؟!
قال شقيق البلخي رحمه الله: «التوكل طمأنينة القلب بموعود الله عز وجل».
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «وجملة التوكل؛ تفويض الأمر إلى الله جل ثناؤه، والثقة به».
وقال بعضهم: «التوكل؛ التعلق بالله في كل حال».
وقيل: «نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك».
أخي المسلم: ذلك هو التوكل، ويدور معناه حول الثقة بالله، والطمأنينة بموعوده، وتفويض الأمر إليه تبارك وتعالى..
فهل سألت نفسك: إنْ خرجتَ من بيتك هل تتوكل على الله؟
أرأيت إن عزمت على أمر من الأمور هل تتوكل على الله؟
أرأيت إن خرجت في طلب رزقك هل تتوكل على الله؟
أرأيت إن نزلت بك المصائب هل تفوِّض أمرك إلى الله؟
التوكل على الله عقيدة ضُعفت في قلوب الكثيرين ممن ملأ قلوبهم حب الدنيا.. والالتفات إلى الأسباب.
حتى أصبح هؤلاء الغافلون يربط الواحد منهم رزقه ونفعه وضُرَّه بالمخلوق!
قال بشر بن الحارث رحمه الله: «أما تستحي أن تطلب الدنيا ممن طلب الدنيا؟! اطلب الدنيا ممن بيده الدنيا».
وقال عبد الله بن إدريس بن يزيد رحمه الله: «عجبت ممن ينقطع إلى رجل، ولا ينقطع إلى من له السماوات والأرض!».
فتأمل في حالك أيُّها المسلم.. وفتش قلبك؛ هل تجد فيه أثرًا لهذا الأصل العظيم: (التوكل على الله؟!).
وعلامة التوكل الصادق؛ الذي يجده أهل التوكل، هو كما قال الحسن البصري رحمه الله، قال: «إن من توكُّل العبد أن يكون الله عزَّ وجلَّ هو ثقته».
فكيف ثقتك بالله تعالى؟!
فتِّش في جنبات نفسك عن جواب هذا السؤال.. وحاول أن تقف على عتبات التوكل بصدق وإخلاص..
أخي المسلم: لقد دعاك الله تعالى إلى التوكل عليه وتفويض أمرك إليه.. وهي دعوة من ملك الملوك والفعَّال لما يريد!
قال الله تعالى: }إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ{ [آل عمران: 160].
وقال تعالى: }وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ{ [المجادلة: 10].
وأمر الله تعالى نبيه r إذا عزم على شيء؛ أن يتوكل على الله.
قال الله تعالى: }فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ{ [آل عمران: 159].
وأخبرك الله تعالى أنه كافيك أمرك إذا توكلت عليه عز وجل.
قال الله تعالى: }وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ{ [الطلاق: 3].
وأخبرك الله تعالى أن التوكل عليه من صفات المؤمنين.
قال الله تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{ [الأنفال: 2].
فهو تبارك وتعالى حيٌّ لا يموت.. لا يعجزه شيء في ملكه.. ومن توكل عليه عزَّ وجل لم يحتج إلى غيره..
عن أبي قدامة الرَّملي قال: (قرأ رجل هذه الآية: }وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا{ فأقبل عليَّ سليمان الخواص فقال: يا أبا قدامة، ما ينبغي لعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد بعد الله في أمره، ثم قال: انظر كيف قال الله تبارك وتعالى: }وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ{ فأعلمك أنه لا يموت، وأنَّ جميع خلقه يموتون، ثم أمرك بعبادته فقال: }وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ{ ثم أخبرك بأنه خبير بصير، ثم قال: والله يا أبا قدامة لو عامل عبد الله بحُسْن التوكل، وصدق النية له بطاعته، لاحتاجت إليه الأمراء فمن دونهم! فكيف يكون هذا محتاجًا وموئله وملجؤه إلى الغني الحميد؟!).
أخي المسلم: هكذا فهم الصالحون التوكل؛ أن تفوِّض أمرك إلى الغني.. الذي ليس كمثله شيء!
فإنَّ من فوَّض أمره إلى الله تعالى لم ينقلب إلاَّ بخير.. وما أحوجك أيُّها الضعيف إلى نصر الله وتوفيقه وإعانته، فإنك إذا وكلت أمورك إلى الله تعالى؛ فقد وكلتها إلى من لا يغفل ولا ينام! وكلتها إلى من لا ينساك!
ولكن مع سيطرة الغفلة على القلوب؛ ترى الكثيرين بعيدين عن تفويض أمورهم إلى الله تعالى! ومن جهلهم تراهم متعلقين بالأسباب! يكدح أحدهم ليله ونهاره وهو ناسٍ الاعتصام بربه تعالى والتوكل عليه!
قال شقيق البلخي: (لكِّ واحد مقام؛ فمتوكل على ماله، ومتوكل على نفسه، ومتوكل على لسانه، ومتوكل على سيفه، ومتوكل على سلطنته، ومتوكل على الله عز وجلَّ. فأما المتوكل على الله عز وجل؛ فقد وجد الاسترواح، نوَّه الله به، ورفع قدره، وقال: }وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ{. وأمَّا من كان مستروحًا إلى غيره؛ يوشك أن ينقطع به فيشقى!).
فتأمَّل أخي المسلم في حال الكثيرين؛ تراهم بعيدين عن التوكل في أمورهم كلها!
إذا طلب الرزق نسي الرزَّاق ذا القوة المتين! }إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ{ [الذاريات: 58].
وإذا مرض نسي النافع عز وجل! }وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{ [الشعراء: 80].
وإذا أحاط به كيد الأعداء نسي الناصر الغالب تبارك وتعالى! }وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ{ [الطلاق: 3].
وإذا نزل به الضُّر نسي كاشف الضر عز وجل! }وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا{ [الأحزاب: 48].
فكيف بمن هذا حاله أن يوفق؟!
عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن؛ متى يؤمر بالنفخ فينفخ؟!» فكأنَّ ذلك ثُقل على أصحاب النبي r، فقال لهم: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» [رواه الترمذي وغيره/ صحيح الترمذي للألباني: 2431].
سُئل يحيى بن معاذ رحمه الله متى يكون الرجل متوكلاً؟! فقال: «إذا رضي بالله وكيلاً».
وقال بعضهم: «متى رضيت بالله وكيلاً، وجدت إلى كل خير سبيلاً».
وقال ابن القيم رحمه الله: «التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم».
فيا من نسيت الوكيل.. مالك الملك.. تبارك وتعالى.. بمن تعوَّضْتَ؟!
فكم من أناس نزلت بهم شدائد؛ فلما توكلوا على الله تعالى؛ انكشف.. ونزل الخير والفرج.
وكم من أناس ضاقت عليهم وجوه الحيل في طلب الرزق؛ فلما توكلوا على الرزاق عز وجل؛ فتح عليهم أنواعًا من خزائن رزقه.
لما نزل البلاء بالنبي r وأصحابه يوم أحد، وسمعوا بكرَّة المشركين عليهم مرة أخرى؛ لم يزيدوا على التوكل على الله تعالى؛ فأعقبهم الله تعالى النصر والظَّفَرَ..
قال الله تعالى: }الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{ [آل عمران: 173].
فكانت النتيجة: }فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ{ [آل عمران: 174].
لقد عاش الصالحون حياتهم؛ وقد فوَّضوا أمرهم إلى الله تعالى.. ووضعوا حوائجهم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوح؛ فاطمأنت النفوس.. وارتاحت من تعب الالتفات لغير الله تعالى.
* وقال عمر بن الخطاب t: «ما أبالي على أيِّ حال أصبحت، على ما أحب، أو على ما أكره، لأني لا أدري الخير فيما أحب، أو فيما أكراه».
* وقال علي بن بكار: شكا رجل إلى إبراهيم بن أدهم كثره عياله، فقال له إبراهيم: «يا أخي، انظر كل من في منزلك ليس رزقه على الله، فحوِّله إلى منزلي».
* وقال عامر بن عبد قيس رحمه الله: «ثلاث آيات من كتاب الله عزَّ وجلَّ اكتفيت بهنَّ عن جميع الخلائق.
أولهنَّ: }وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{.
والآية الثانية: }مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{.
والثالثة: }وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ{».
* وقال وهيب بن الورد رحمه الله: «لو كانت السماء نحاسًا والأرض رصاصًا، واهتممت برزقي لظننت أني مشرك».
* وقال أبو حازم رحمه الله: «وجدت الدنيا شيئين: شيء هو لي، وشيء هو لغيري. فأما الذي هو لي: فلو طلبته قبل أجله بحِيَل السماوات والأرض لم أقدر عليه. وأما الذي هو لغيري: فلم أصبه فيما مضى، ولم أرجه فيما بقى، يمنع رزقي من غيري؛ كما يمنع رزق غيري مني, ففي أي هذين أفني عمري؟!».
* وقال رجل لحاتم الأصم رحمه الله: من أين تأكل؟ فقال: }وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ{ [المنافقون: 7].
أخي المسلم: ذلك طرف من حياة الصالحين؛ الذين امتلأت قلوبهم بالتوكل على الله تعالى..واليقين الصادق؛ أن الله تعالى بيده الحكم والأمر.
فأين أنت من هذه العقيدة الراسخة؟!
وإيَّاك أيها العاقل أن تكون من أولئك الذين ضعفت في نفوسهم عقيدة التوكل على الله تعالى فتراهم؛ حيارى.. متخبطين.
فحاسب نفسك.. وأوقفها على هذه المحطة المهمة.. ولا تغفل تعهدها وتقويمها؛ كلما أحسست ميلاً عن طريق التوكل على الله تعالى.
وإيَّاك أن تفهم أن من أخذ بالأسباب فإنَّ ذلك ينافي التوكل.
فإنَّ من أخذ بالأسباب الموصلة إلى مسبباتها؛ فإنّ ذلك لا يقدح في توحيده؛ بل إن ذلك من كمال التوكل على الله تعالى، ولكن الركون إلى الأسباب والالتفات إليها دون المسبب تبارك وتعالى؛ فهو الذي يقدح في التوحيد.
قال ابن القيم: «التوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم معه التوكل، ولكن من تمام التوكل؛ عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه فيامه بالله لا بهاء، وحال بدنه قيامه بها، فالأسباب محل حكمة الله وأمره ونهيه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية السباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلاَّ على قدم العبودية».
قال إبراهيم الخواص رحمه الله: «أدب التوكل ثلاثة أشياء: صحبة القافلة بالزاد، والجلوس في الزروق بالزاد، والجلوس في المجلس بالزاد».
أخي المسلم: التوكل على الله تعالى؛ صفة أولياء الله تعالى.. وحزبه المفلحين.. فاحرص أن تكون واحدًا من المتوكلين على الله تعالى.. الواثقين به تبارك وتعالى.. المفوِّضين أمورهم إليه عز وجل.. يسهُل أمرك.. ويحالفك التَّوفيق والظَّفَر.
قال رسول الله r: «لو أنَّكم توكلتم على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماسًا، وتروح بطانًا» [رواه ابن ماجه وغيره/ صحيح ابن ماجه للألباني: 3377].
وقال رسول الله r: «من نزلت به فاقةٌ فأنزلها بالناس؛ لم تُسَدَّ فاقتُهُ، ومن نزلت به فاقةٌ، فأنزلها بالله؛ فيوشك الله له برزقٍ عاجل أو آجلٍ» [رواه الترمذي وغيره/ صحيح الترمذي للألباني: 2326].
أخي المسلم: ما أظنك تختار على الثقة بالله الثقة بغيره.. فهو تبارك وتعالى العليم بما يصلحك.
فلُتقبل على ربك تعالى؛ متوكلاً.. مستعينًا.. راجيًا.
فهو تبارك وتعالى كهفك إذا أحاطت بك الشدائد..
وأملك إذا ضاقت عليك المخارج.. وسلواك إذا نزلت بك الأحزان.. وعضُدك إذا كادك العدو..
من اعتصم به أفلح.. ومن طلب ما عنده أنجح..
فلا تطرقنَّ إلاَّ بابه.. ولا تتوكلنَّ إلاَّ عليه تبارك وتعالى..
ولا يفوتك أيُّها المسلم أن تكون من الفائزين بثمار التوكل على الله؛ التي يفوز بها المتوكلون في الدنيا والآخرة..
فإذا اعتصم سواك بغير الله تعالى.. فكُن معتصمًا بالله تعالى.
وإذا وثق غيرك بالمخلوق.. فكُن واثقًا بالخالق عز وجل..
فالله تبارك وتعالى وكيل الصادقين.. وأمل المخلصين.. }وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ [المائدة: 23].
والحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على النبي محمد وآله والأصحاب.