وجوب الأخذ بالأسباب وعاقبة إهمالها
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الإعراض عن الأسباب قدح في الشرع؛ لأن كل شيء في الكون لا يتم إلا بسبب من العبد، ولا يوجد شيء في الكون إلا له سبب.
ومن ألطف ما يذكر في ذلك قوله تبارك وتعالى لـمريم عليها السلام: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25]، تصوروا نخلة مثمرة وجاء أربعون رجلاً من أشداء الرجال فهزوا النخلة هل تنزل تمرة؟ تهتز النخلة ولا تسقط شيئاً، فكيف بامرأة نفساء، والمرأة إذا وضعت تكون أضعف ما يكون، إذ تكون قد فقدت كل قواها، لذلك عظم حقها على أبنائها كما في الأدب المفرد بسند قوي أن رجلاً حمل أمه وطاف بها حول البيت وهو يقول:
أنا لها بعيرها المذلـل إن أذعرت ركابها لن أذعر
يقول: أنا بعير لها أحملها وأطوف بها، ولا أذعر كما تذعر البعران، ثم ذهب إلى ابن عمر ، قال: يـابن عمر! أتراني وفيتها؟! قال له: لا. ولا بزفرة.. والزفرة التي هي الآه التي تطلقها المرأة أثناء الولادة، أو الصراخ الذي تصرخه حال الولادة، أي: مهما فعلت لها لن توفيها حقها ولا بزفرة من زفراتها.
فما بالكم بامرأة نفساء تهز النخلة، هل يمكن مع ضعفها أن تهتز النخلة؟ لا يمكن ذلك، وإنما كان هذا الأمر إشارة لطيفة إلى ضرورة الأخذ بالسبب، وقد أحسن الشاعر جد الإحسان لما نظم هذا المعنى، فقال:
توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغبن بالعجز يوماً عن الطلب
ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
فلو شاء أن تجنيه مـن غير هزه جنته ولكن كل رزق له سبب
فهذه امرأة نفساء وهي أعذر ما تكون إذا تركت الأخذ بالأسباب، وذلك من أعظم الدلالة على أنه لابد أن يأخذ العبد بالسبب.
وإن العبد إذا قصر في الأخذ بالسبب عوقب بحرمان الثمرة، مثلاً: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، فالسبب الذي إذا أراد المسلمون أن تأتلف قلوبهم يجب أن يأخذوا به هو أن يسووا صفوفهم، فإذا لم يسووا الصفوف نفرت القلوب، فتسوية الصف سبب من أسباب اجتماع القلوب، فلما قصر المسلمون في ذلك، نفرت قلوبهم، يصادف أن يصلي رجل بجوار رجل آخر بينهما شحناء، تصور أنهما يخرجان من الصلاة أشد كدراً من دخولها، يقول لك: أنا أول ما رأيته قلبي انقبض، ما نفعتك صلاتك إذاً، وقفت في الصلاة وقلبك في الشارع، هل صفّت الصلاة الشحناء التي في قلبك؟
وآخر صلى وهو هادئ الأعصاب، وخرج منها يتضور، أي صلاة هذه؟ أي صلاة هذه؟!
ذهب رجل إلى أحد المفتين وقال له: أرأيت إن صليت إلى جانب رجل عن يساري وأنا أبغضه، تُرى ماذا أفعل؟ قال: يكفيك تسليمة واحدة، حتى لا ينظر إلى هذا الذي يبغضه عن يساره.
لم يأخذ العباد السبب فمنعوا الثمرة.
إن هذه الصلاة شرعت خمس مرات في اليوم حتى لا يصاب أحد بضغناء ولا شحناء على أحد، تُرى هل ينعقد قلبك على كره إنسان إذا كنت في كل يوم خمس مرات تلتصق قدمك بقدمه وكتفك بكتفه، لكن نحن عجزنا عن استثمار هذه الصلوات، فلما قصرنا في الأخذ بالسبب منعنا الثمرة التي من أجلها شرعت صلاة الجماعة، وهو أن يجتمع المسلمون على قلب رجل واحد.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا..